«الصحــــــراء.. أراضـــي الحــــدود المفقــــودة»
أندرو روبنسون
Published, 1 Apr 2015
نشأت الحضارات القديمة على ضفاف الأنهار العظيمة في الأراضي الجافة، مثل أرض الهلال الخصيب (التي يُطلق عليها الآن العراق وسوريا وفلسطين)، وفي وادي النيل، غير أن الشعوب الأوروبية منذ القدم تَعتبِر الصحاري مناطق جرداء وقاحلة، لا تُعِين على الحياة، ربما لأن أوروبا ليست بها صحار خالصة. وتجاهل تشارلز داروين ـ خلال ترحاله في العالم خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر ـ مناطق معينة، مثل صحاري شيلي، واعتبرها مناطق بدائية، مقارنة بالغابات المطيرة وجُزُر المحيط. وفي القرن العشرين، اعتُبرت الأراضي الجافة في مناطق متباعدة ـ مثل نيفادا، والجزائر، وكازاخستان، وأستراليا ـ مناطق ملائمة لاختبار الأسلحة النووية.
في كتاب «الصحراء»، يسعى الجيولوجي مايكل ويلاند لإعادة الأمور إلى نصابها. وفي كتابه «الرمال» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2009) استكشف الأراضي الجافة بعمق وإسهاب. أمّا في هذا الكتاب، الذي يتحدث عن التاريخ الثقافي والعلمي، والمزوَّد برسوم وصور مبهرة، فينطلق ليرسم الصورة الكبيرة، مازجًا بين علوم الجيولوجيا، والمناخ، والنبات، والحيوانات، والبيئة، والأنثروبولوجيا؛ لتسليط ضوء جديد على أماكن ذات تاريخ عريق، تحفل بالثراء الطبيعي والثقافي. يقول في كتابه: إذا نمتَ ذات ليلة في الصحراء، ستجد على الرمال، عندما تصحو في الصباح، «آثار مسارات ومسالك الأنشطة الليلية المتعددة».
قبائل الطوارق في الصحراء الكبرى من بين 2.6 مليار نسمة يعيشون في الأراضي الجافة.
تَعتبِر الأمم المتحدة ثلث مساحة اليابسة في كوكبنا ـ التي يعيش عليها خُمْس سكان العالم ـ مناطق شديدة القحولة، مثل الصحراء الكبرى، أو قاحلة، مثل وسط أستراليا، أو شبه قاحلة، مثل الغرب الأمريكي. وإذا أخذنا في الاعتبار المناطق الجافة شبه الرطبة، مثل جنوب شرق الهند، فيمكن وصف مساحة %41.3 من اليابسة بأنها أراضٍ جافة، يسكنها حوالي 2.6 مليار نسمة. ومع ذلك.. لا يُؤخذ في الاعتبار حساب تأثير غبار الصحراء على المناطق غير القاحلة. وقد نَوَّه ويلاند إلى أن الغبار الأفريقي الذي يهب عبر المحيطات يحدد قوة الرياح الموسمية الهندية، ويكون تراب جزر البهاما، وفلوريدا كيز، فضلًا عن الغبار القادم من أفريقيا، والشرق الأوسط، وآسيا، يحفِّز سقوط مطر الشتاء والجليد في كاليفورنيا. ومن ثم، هناك حاجة عاجلة إلى فَهْم تضاريس الصحاري، وبيئتها، ومجتمعاتها، واقتصادياتها.
خَصَّ الكتاب ظاهرة التصحر بقسط وافر من الاهتمام والمناقشة. وتُعَرِّف اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر ـ التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1996 ـ التصحر بأنه «تدهور التربة في المناطق القاحلة، وشبه القاحلة، وشبه الرطبة الجافة، نتيجة لعوامل متنوعة، منها التغيرات المناخية، والأنشطة البشرية». وعندما نُحت المصطلح في عشرينات القرن الماضي، كان يشير فقط إلى سوء الاستغلال البشري للأراضي الجافة، من خلال الرعي الجائر، وإزالة الغابات، والإفراط في الزراعة، لكن لا يزال المصطلح يحتفظ بمعنى مثير للخيال. ولعل هذا يفسر جانبًا من معارضة بعض العلماء لتعريف المصطلح، ويرى ويلاند أنه «يحجب الحقائق». ويتجلى ذلك ـ على سبيل المثال ـ من خلال الإشارة الضمنية الخاطئة إلى أن الصحراء تمثل المرحلة النهائية من عملية تحوُّل ما، وليست «إحدى البيئات المتنوعة في كوكبنا، أو بيئة تطورت بصورة طبيعية في ظل ظروف ندرة المياه».
تعريف مصطلح الصحراء ليس تعريفًا مباشرًا. ويشير ويلاند إلى أن خريطة الأمم المتحدة للأراضي الجافة ـ التي تصنف المناطق وفقًا لمؤشرات الجفاف والقحولة ـ ليس «لها أي معنى على الإطلاق» في الواقع، فالطبيعة ـ كما قال في كتابه ـ لا «تعمل بحدود مرسومة». وعلى العكس، أثمر الاستشعار عن بُعد باستخدام الأقمار الصناعية، مثل قمر «إنفيسات» Envisat التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، عن خرائط واسعة النطاق وغزيرة التفاصيل، حيث كشفت عن أنماط النباتات التي تتطابق مع الحقائق على الأرض.
أسهب ويلاند في كشف ثراء الطبيعة في الصحراء.. فلون الصحراء، على سبيل المثال، هو بمثابة لمسة معدنية على الصخور، تتألق في ضوء الشمس (تلك اللمسة التي قال عنها تي إ. لورانس إنها أرهقت عينيه). ولا يقل سُمك هذا اللون عن 200 ميكرومتر، وهو غني بأكاسيد الحديد والمنجنيز والمعادن الطينية، بالإضافة إلى البكتيريا وحبوب اللقاح، و»تشكيلة من الجزيئات العضوية». ومن الواضح أن النباتات الصحراوية تزدهر بإنتاج بعض المركبات الكيميائية الفريدة، التي قد يدخل بعضها في تطبيقات وخصائص طبية. فعلى سبيل المثال.. تحتوي شجرة بلح الصحراء (Balanites aegyptiaca) على مواد محتوية على عنصر الصابونين، ويمكن استخدامها في علاج السرطان.
تناولت أقسام كثيرة من الكتاب شعوب الصحراء، مثل الطوارق في الصحراء الكبرى، والسكان الأصليين في أستراليا، كما تَحَدَّث الكتاب عن المستكشفين والرحّالة، ابتداء من ابن بطوطة في العصور الوسطى إلى جيرترود بيل في أوائل القرن العشرين. وأورد الكتاب قصة لا يعرفها الكثيرون، عن دخول الإبل الآسيوية في المناطق النائية الأسترالية في سبعينات القرن التاسع عشر، وكان لهذه الإبل دور حاسم في نقل الأحمال عند إنشاء طريق السكة الحديد العابر للقارات. ويجوب الآن ما يقرب من مليونٍ من أحفاد هذه الإبل منطقة ريد سنتر بحُرِّيَّة.
يسرد الكتاب كذلك القصص المعاصرة حول الجهود البطولية التي قام بها البعض لمقاومة تدهور المناطق القاحلة. ويسلط ويلاند الضوء على ياكوبا ساوادوجو، وهو مُزارع في بوركينا فاسو، نجح في تخضير منطقة كبيرة من الصحراء، رغم مقاومة الحكومة. فقد استخدم أسلوبًا يعتمد على حَفْر الحُفَر (zaï)، وملئها بالمخلفات التي تتحلل عضويًّا، حيث جذبت النمل الأبيض الذي ساعدت أنفاقه على تكسير التربة؛ مما سهَّل من امتصاص مياه المطر. وفي الفيلم الوثائقي «الرجل الذي أوقف الصحراء» للمخرج مارك دود في 2010، قال المهندس الزراعي الهولندي كريس ريج: «نجح ياكوبا وحده في ترك أثر على التربة، وفي الحفاظ على المياه في منطقة الساحل، وتفوَّق على جميع الباحثين المحليين والدوليين معًا». وفي عام 2013، فاز ساوادوجو وريج بجوائز الأمم المتحدة لأبطال المناطق الجافة في العالم.
يزخر هذا الكتاب بالكثير من المعلومات، رغم أنها في بعض الأحيان قد تكون صعبة الاستيعاب، وتتراوح ما بين التعقيدات الجيولوجية، والإفراط في استخدام المياه الجوفية. ومن وجهة نظر ويلاند المقنعة.. أن «أهم ما نتعلمه من الصحراء أنها ـ في حقيقة الأمر ـ ليست قفرًا، ولا موحشة».